السبت، 21 يناير 2012

بلوحاتى ..

كان اليوم الثانى من عيد الفطر .. والنفوس ضاحكة مستبشرة بالعيد وذهبت أزور صديقا فى إحدى المجلات الأسبوعية .. ودخلت علينا فى ساعة الظهيرة فتاة حسناء تحمل لوحة كغلاف للمجلة .. وسر الصديق من روعتها .. ووضوح فكرتها ..
ووقفت بجانبه أتأمل الرسم وأطرى عمل الفتاة .. وكانت هى فى خلال ذلك قد انزوت فى ركن وهى خجلى وخداها يتقدان وعرفنى بها كرسامة موهوبة وزاد هذا من ارتباكها ونظرت إلىَّ قليلا .. ثم نكست رأسها ..
والواقع أن الفتاة كانت هى نفسها لوحة رائعة أجمل من اللوحة التى رسمتها .. كانت فيها فتنة بارزة فى الشفة والحاجب .. والعين السوداء الناعسة ..
وكنت أشعر بانتفاضة كلما رأيت فتاة تدخل من الباب الضيق فى عالم الفنون .. وتصبح شاعرة أو موسيقية .. أو رسامة .. لمجرد أنها أنثى ..
وعلى هذا الاعتبار المشحون بالعواطف الفائرة عاملت الفتاة .. فلما أخرج لها صاحبى من درج مكتبه " الشيك " ثمنا للرسم .. تناولته .. وقلبته فى حيرة ..
ـ أصرفه من هنا ..؟
كانت تمسك " شيكا " لأول مرة فى حياتها .. ولما لاحظت حيرتها أخذته منها .. وأعطيتها الجنيهات .. السبعة .. وسرت كثيرا وشكرتنى ..
ولاحظت وهى خارجة من الدار أنها تعرج ..
***
وكنت فى ذلك الوقت أسكن فى ضاحية الهرم فى منطقة الفيلات الصغيرة .. بمحطة " الوسط " وكان بيتى صغيرا .. وبعيدا عن الشارع الرئيسى .. وعن طريق السيارات .. هناك وسط المزارع .. كنت أعيش وأرسم وحيدا محروما من متع الحياة ..
ولكن الفرشاة كانت لينة فى يدى وروحى كانت منطلقة وأفكارى كانت تعلو وتأتى بكل جديد ورائع ..
وكنت فى الطريق إلى البيت أمر على ملاهى الأوبرج .. والأريزونا .. وهافانا .. وأحادث بعض النساء اللواتى تطاردهن السيارات .. أو ترميهن الملاهى إلى ظلام الطريق .. وكنت إذا وجدت فيهن الوجه الذى يعبر عن شىء يكون فكرة آخذ صاحبته إلى البيت .. وتجلس أمامى ساعات .. وأرسمها فى الوضع الذى يبرز مفاتنها .. ثم أعطيها كل ما معى من نقود ..
كنت أرسم فى هذه المنطقة الهادئة .. وأكلف بعمل كثير ولا أجد فى وقتى ساعة من فراغ .. وكنت أربح كثيرا وأنفق أكثر مما أربح وأعيش فى دوامة .. من التفكير فى العمل والحياة الخالصة للفن .. وكان الانكباب على اللوحات من الصباح .. إلى ساعة الليل .. يرهقنى .. فأرمى الفرشاة وأنا محطم الجسم والأعصاب وأستغرق فى النعاس ببدلتى ..!!
وإذا استيقظت فى الصباح مبكرا .. كنت أذهب إلى قلب القاهرة .. وكنت أعرض بعض لوحاتى .. عند تاجر إيطالى يدعى " مارزينى " وكان خبير فى صنعته وعنده ورشة لصنع أجمل البراويز على الاطلاق وكان يبيع لى لوحة واحدة أو لوحتين فى السنة .. وكنت أكتفى بهذا القدر .. لأنه كان يتعامل مع خاصة الزبائن من عشاق الفنون الذين يدفعون أثمانا عالية ..
***
وحدث عصر يوم وأنا جالس فى مدخل المحل .. أن دخلت علينا نفس الفتاة التى قابلتها فى المجلة وكانت تحمل لوحة ملفوفة .. ولما رأتنى فى الداخل عرفتنى .. فشجعها هذا على مخاطبة صاحب المحل .. واعتذر لها الرجل عن شراء أى شىء لأن اللوحات عنده مكدسة .. ولكنه وعد أن يعرض لها اللوحة فى معرضه بالثمن الذى تراه ..
واشتركت معها فى تقدير الثمن ثم تركت اسمها وعنوانها للرجل وخرجت ومشيت معها فى شارع محمد فريد .. حتى اقتربنا من بنك مصر .. وعلمت منها أنها تعلمت الرسم فى المدرسة .. وأنها عشقته من الطفولة .. وعندها لوحات كبيرة .. وأنها ترسم لأنها تقضى الوقت كله مع والدتها فى البيت .. وكانت لاتفكر فى العرض أو البيع ولكن زميلة لها شجعتها على ذلك ..
وقالت لى أنها تعرفنى من سنين .. منذ رأت أول لوحاتى فى معرض الفنون الجميلة .. وأنها تعتبرنى أستاذها .. وقد شكرتها على هذا الاطراء .. وسررت به ..
ولما سألتها :
ـ لماذا لم تقدمى شيئا آخر للمجلة ..؟
ـ لم يطلبوا منى شيئا آخر .. والظاهر أن الرسم لم يعجبهم ..
ـ كلا .. كلا .. بالعكس ..
ـ هذا .. ما حدث ..
وشعرت بالشىء الذى يصرخ فى أعماقها ..
وكنت أمشى الهوينا .. حتى لا أحرجها .. أو أجعلها تحس بأنها تعرج أو تمشى مشية غير طبيعية ..
وكانت رقيقة وادعة .. وتتأبط حقيبة فيها بعض الكتب .. كأنها طالبة فى الجامعة ترافق والدها ..
وكنت أحس بهذا الفارق الكبير فى السن وأخجل منه .. ولكنها كانت تمشى بجوارى مستريحة وكأنها وجدت من تأتنس بعشرته فرافقتها حتى ركبت الترام رقم 17 إلى الحلمية الجديدة ..
***
ثم التقيت بها بعد ذلك بشهرين على التحديد .. عند أجزخانة الإسعاف وكنت أنتظر الأتوبيس الذاهب إلى الجيزة ..
وكانت داخلة الأجزخانة .. وهى تسرع برغم عرجها .. ثم خرجت بعد دقيقتين كاسفة البال .. وفى يدها " الروشتة " ..
وعلمت منها أنها تبحث عن كورامين لوالدتها .. ولم تجده فى معظم الأجزخانات .. وجاءت إلى أجزخانة الإسعاف .. وكلها أمل .. ولكن خاب ظنها ..
وخطر فى بالى فى الحال صديق يعمل فى مخزن كبير للأدوية .. وكنت أستعين به فى أشد الأوقات حروجة .. ولكن بيته كان فى الحسين .. وخشيت أن أذهب إليه فلا أجده فى هذه الساعة من الليل .. ومع هذا حدثت سعاد عنه .. ورجوتها أن تنتظرنى فى بيتها ولكنها أصرت على أن ترافقنى فى هذه الجولة ..
***
وركبنا تاكسى .. ووجدنا الصديق .. وجاء لنا بالزجاجة .. وطارت بها سعاد فرحا .. وأخذت تضغط على يدى .. مرة .. ومرة .. ولما علمت أنها وحيدة وأنه لا أحد يمرض والدتها ويعولها سواها رافقتها إلى البيت وكان من طابقين .. لاحظت أن النوافذ كلها مغلقة .. كأنه لا يسكنه أحد لم أجد غير امرأة عجوز .. وسمعت من يقول وأنا داخل :
ـ الدكتور .. جاء ثانية ..
وجلست فى الصالة وحيدا .. وطالعنى الصمت .. وكان بعض الجارات عند المريضة فى الدور العلوى .. ورأيت أثاث البيت نظيفا وكل شىء مرتبا كأنه معد لاستقبال ضيف .. ورأيت على الحائط صورة كبيرة لرجل فى الخمسين من عمره يلبس طربوشا وبدلة .. وكان طويل الوجه وله شارب مفتول .. وكأنما كان يسدد النظر إلىَّ ويتعقبنى أينما تحركت .. فلقد رأيت صورة نفس الرجل مصغرة .. ومكبرة .. وبالزيت .. وبالفحم .. فى أكثر من مكان فى البيت ..
وجاءت سعاد .. بعد أن اطمأنت على والدتها .. تقدم لى كوبا من عصير الليمون .. وقالت لى فى رقة :
ـ أتعرف أنك أول رجل يدخل البيت .. بعد وفاة والدى ..
ورفعت عينيها إلى الصورة ..
وفتحت فمى مدهوشا .. منذ عشرين سنة .. وهى محبوسة فى هذا البيت .. لم تشاهد رجلا ولم تسمح لرجل بأن يدخل عليها العتبة .. وكان جميع الجيران يعرفون طباعها ويحترمون ارادتها ..
ـ ولكن لماذا تفعلين هذا ..؟
ـ مات والدى فى شبابه خرج فى الصباح إلى عمله .. وفى الظهر عاد الينا محمولا على النعش .. ولما دفنوه لم أصدق أنه ذهب .. كان رجلا وكان يحبنى وكنت أعبده .. فأغلقت نوافذ البيت وأنزلت الأستار .. وتصورته يتحرك معى .. أينما ذهبت وها أنت تراه فى كل مكان ..
ونكست رأسى ألما فلم أر فى حياتى أشد من هذا قسوة على النفس وتضحية ..
ونظرت إلى الفتاة المسكينة وإلى مصيرها بعد أمها وذاب قلبى حسرات فقد علمت أن والدها لم يترك سواها .. وأن أهل والدها من دسوق ولكن صلتهم بها قد انقطعت منذ ثلاثين سنة .. ولا تعرف إن كانوا أحياء أم أمواتا ..
وأصبحت أعطف على الفتاة وأزورها وأحمل لها زجاجات الكورامين .. وكنت أجلس فى غرفة صغيرة فى المدخل .. وأرى البيت المهجور .. ساكنا .. وجدرانه أكلتها الرطوبة .. وهواءه راكدا .. فاسدا ..
وقالت لى الفتاة أن والدتها ضعف بصرها منذ أربعة شهور حتى أصبحت لا تستطيع أن تواجه النور ..
وألح علىَّ الفضول لأرى هذه السيدة الغريبة فى النساء .. وجعلتنى سعاد أراها وهى مستغرقة فى الصلاة .. وكانت ترتدى وشاحا أبيض ..
***
ومرت الأيام وزاد عطفى على الفتاة ووجدتها تتعلق بى وتندفع بكل عواطفها نحوى .. وكأنها وجدت فىَّ الأب الذى عاد بعد غيبة طويلة .. ووجدت نفسى بعد ثمانية شهور لا أستطيع الفكاك .. وأصبحت الفتاة تتحرك فى داخل الاطار الذى رسمته لها .. وكنت كلما أمسكت بيدها الصغيرة .. أحس بها ترتعش ..
كانت تغالب الانفعال المكبوت ..
وذات مساء .. وأنا أودعها على الباب .. بعد نزهة فى الخارج وجدتها ترتمى على صدرى .. وتشكو لى همها ..
وفى يوم عبوس .. ماتت والدتها قبل الفجر .. ولم أترك الفتاة لرحمة الأقدار .. فتزوجتها وأغلقت بيتها فى الحلمية وجاءت إلى بيتى فى الهرم ..
وقضينا الأسابيع الأولى بعد الزواج ونحن فى سعادة لا توصف .. ولكننى لاحظت .. أننى إذا ذهبت فى عمل إلى القاهرة .. أجدها واقفة على باب الفيلا .. تنتظر فى لهفة وقلق .. ومرة أجدها واقفة على رأس الشارع .. وكنت كلما أفهمتها أن هذا القلق لا مبرر له .. وأننى أخرج كأى إنسان إلى عملى .. وأعود كما يعود سائر الناس مرة فى الميعاد ومرة متأخرا .. ويجب أن تعوّد نفسها هذا .. كانت ترد على هذا الكلام بالبكاء المكتوم ..
وأخيرا تركتها على طبيعتها ولكنها شلت حركتى .. وعملى .. أصبح قلقها يغيظنى ويثير أعصابى ..
ورأيت أن أريحها من هذا العناء .. فانتقلنا إلى بيتها الكبير فى الحلمية لتعيش هناك ..
***
انتقلت بلوحاتى .. وفتحت نوافذ البيت للنور والشمس .. وطلينا الجدران ولكن حبها لى يزداد يوما بعد يوم .. وأنا أشعر بسعادة ولكن أخاف أن يتحول هذا الحب إلى عبادة .. فترفع صورتى إلى جانب صورة المرحوم ..!!
ولهذا كنت أهرب .. أهرب .. من البيت وأهرب من عواطفها الدافقة لأعيش .. ويعيش حبنا وتتحرك فرشاتى على اللوحة ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق